كان
يسكن تونس في القديم العنصر البربري الذي لا يَعرف عنه التاريخ إلاّ
القليل، ويحدّثنا المؤرخون أنه كان للبربر نصيب من الحضارة لاتّصالهم بمصر
الفرعونية وبلاد اليونان.
وفي القرن الثاني عشر ق.م ابتدأت تنتشر على
سواحل تونس مراكز تجارية قام بتأسيسها الفينيقيّون الذين قَدِموا إليها من
الشام، وهم الذين أنشأوا مدينة قرطاجنة في القرن التاسع ق.م التي ما لبثت
أن أصبحت تسيطر على بقية المدن والمراكز التجارية الجديدة على طول سواحل
المغرب. وتكونت في قرطاجنة في ذلك العصر أعظم دولة بحرية امتدّ نفوذها من
برقة إلى المغرب الأقصى، وزاحمت الدولة اليونانية في السيادة على البحر
الأبيض المتوسط. وبعد أن سيطرت قرطاجنة على السواحل بسطت سلطانها على
المناطق الداخلية واستعمرتها وأجبرت البربر على دفع الضرائب والانخراط في
الجيش.
وقد انبعثت من مدينة قرطاجنة حضارة شرقية زاهرة، وأخذ البربر
بأسباب هذه الحضارة، ونقلوا عن الفينيقيين أصول التجارة والصناعة والفلاحة،
واعتنقوا عقائدهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية.
وفي منتصف القرن الثالث
ق.م اشتدّ التنافس بين رُومة وقرطاجنة في السيطرة على حوض البحر الأبيض
المتوسط، وأدّى ذلك إلى نشوب « الحروب الفينيقية الثلاثة » بين الفريقين،
وقد دامت أكثر من قرن وانتهت بتدمير قرطاجنة الفينيقية سنة 143 ق.م وإقامة
قرطاجنة الرومانية على أنقاضها.
وقد تركت الحضارة الفينيقية التي دامت أكثر من عشر قرون آثاراً عميقة في البلاد.
وبعد
العصر الفينيقي دخلت تونس تحت سيطرة روما من سنة 146ق.م إلى سنة 430. ولم
يَعتَنِ الرومان بادئ الأمر باستعمار البلاد، إذ كانوا منهمكين في الحروب
الداخلية. وقد بسطوا نفوذهم المباشر على « إفريكا » ( إفريقية ) التي كانت
تشمل مناطق تونس الحالية، بينما وكلوا أمر « نوميديا » ( وهي منطقة قسنطينة
التابعة للجزائر ) إلى أمير من أمراء البربر وضعوه تحت حمايتهم.
وشرعت
الدولة الرومانية في تنظيم استعمارها وتوطيد أقدامها في البلاد، بعد أن
استقر الحكم للقياصرة سنة 31ق.م، فأُقطعت الأراضي الشاسعة إلى قدماء
المحاربين والأغنياء من الرومان، وخُطّت الطرقات في طول البلاد وعرضها،
فانتشرت المزارع والبساتين وعمّ العمران وتعددت المدن الزاهرة، حتّى أصبحت
تونس من أخصب ممتلكات الإمبراطورية الرومانية وأكثرها عمراناً. وقد جعل
الرومان من مناطق البلاد القاحلة مناطق خصبة بما أحدثوه من نظام محكم للريّ
وما حفروه من آبار.
.
وكانت سيطرة الرومان على البلاد عسكرية
واقتصادية، ومع ذلك ازدهرت حضارتهم في البلاد وبلغت أوجَها بين بقية
ممتلكاتهم. وأخذ البربر بأسباب هذه الحضارة وساهموا في ازدهارها، ووصل
بعضهم إلى أعلى الرُّتَب والوظائف في الدولة الرومانية. إلاّ أن بعض
القبائل البربرية لم تُقبِل على هذه الحضارة وبقيت محافظة على شعائرها
ولغتها، وتحصّنت في الجبال وصارت تتربّص الفرص للانتقاض على السلطة
الرومانية.
ولما ظهرت الخلافات الدينية بين المسيحيين ساعد البربر على
انتشارها في إفريقية وضعف نفوذ الحكام وتكررت ثورات البربر، وانتهى هذا
العصر الذي دام ستة قرون باحتلال الوَنْدال للبلاد في القرن الخامس
الميلادي.
وأسّس الوَندال بإفريقية مملكة مستقلة دامت نحو المائة سنة
وكان احتلالهم للبلاد احتلالاً عسكرياً، وقد احتفظوا بنظام الإدارة
الرومانية، وقضوا على الاستعمار الروماني للأراضي، فاستمالوا بذلك البربر
وتعاونوا معهم وأشركوهم في الغزوات التي شنّوها على سواحل البحر الأبيض
المتوسط.
ولما ضعف سلطان الوندال خرج جزء كبير من بلاد البربر عن
طاعتهم، ولم يَبقَ بأيديهم سوى شمال بلاد إفريقية ( تونس )، وانتهى بهم
الأمر إلى أن طردهم روم بيزنطة سنة 534م الذين ألحقوا إفريقية
بأمبراطوريتهم بعد أن كسروا شوكة البربر. ثم شرعوا في تنظيم البلاد وإقامة
الحصون بها لرد غارات القبائل البربرية.
وبعد أن عاد الأمن للبلاد
وتمتّعت بحياة الرخاء مدة قرنين متواليين اضطربت الأحوال بسبب ضعف سلطان
الروم واستفحال النزعات الدينية، وأفضى ذلك بولاة الروم إلى الاستقلال
بالحكم في المناطق الإفريقية التي كانوا يديرون شؤونها، وقويت شوكة رؤساء
قبائل البربر فخرجوا عن طاعة الدولة وصاروا يناهضونها في كل المناسبات